فصل: تفسير الآيات (37- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآية رقم (29):

{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)}
{ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} ثم ليزيلوا عنهم أدرانهم كذا قاله نفطويه. قيل: قضاء التفث قص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد، والتفث: الوسخ والمراد قضاء إزالة التفث. وقال ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما: قضاء التفث مناسك الحج كلها {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} مواجب حجهم والعرب تقول لكل من خرج عما وجب عليه: وفى بنذره وإن لم ينذر، أو ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم، {وليوفوا} بسكون اللام والتشديد: أبو بكر {وَلْيَطَّوَّفُواْ} طواف الزيارة الذي هو ركن الحج ويقع به تمام التحلل. اللامات الثلاث ساكنة عند غير ابن عياش وأبي عمرو {بالبيت العتيق} القديم لأنه أول بيت وضع للناس بناه آدم ثم جدده إبراهيم، أو الكريم ومنه عتاق الخيل لكرائمها، وعتاق الرقيق لخروجه من ذل العبودية إلى كرم الحرية، أو لأنه أعتق من الغرق لأنه رفع زمن الطوفان، أو من أيدي الجبابرة؛ كم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله، أو من أيدي الملاك فلم يملك قط وهو مطاف أهل الغبراء كما أن العرش مطاف أهل السماء، فإن الطالب إذا هاجته معية الطرب وجذبته جواذب الطلب جعل يقطع مناكب الأرض مراحل ويتخذ مسالك المهالك منازل، فإذا عاين البيت لم يزده التسلي به إلا اشتياقاً ولم يفده التشفي باستلام الحجر إلا احتراقاً، فيرده الأسف لهفان ويردده اللهف حوله في الدوران، وطواف الزيارة آخر فرائض الحج الثلاث، وأولها الإحرام وهو عقد الالتزام يشبه الاعتصام بعروة الإسلام حتى لا يرتفض بارتكاب ما هو محظور فيه ويبقى عقده مع ما يفسده وينافيه، كما أن عقد الإسلام لا ينحل بازدحام الآثام وترتفع ألف حوبة بتوبة. وثانيها الوقوف بعرفات بسمة الابتهال في صفة الاهتبال، وصدق الاعتزال عن دفع الاتكال على مراتب الأعمال وشواهد الأحوال.

.تفسير الآية رقم (30):

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)}
{ذلك} خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك أو تقديره ليفعلوا ذلك {وَمَن يُعَظّمْ حرمات الله} الحرمة ما لا يحل هتكه وجميع ما كلفه الله عز وجل بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها، فيحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصاً بما يتعلق بالحج. وقيل: حرمات الله البيت الحرام والمشعر الحرام والشهر الحرام والبلد الحرام {فَهُوَ} أي التعظيم {خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ} ومعنى التعظيم العلم بأنها واجبة المراعاة والحفظ والقيام بمراعاتها {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام} أي كلها {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} آية تحريمه وذلك قوله {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] الآية. والمعنى أن الله تعالى أحل لكم الأنعام كلها إلا ما بيّن في كتابه، فحافظوا على حدوده ولا تحرموا شيئاً مما أحل كتحريم البعض البحيرة ونحوها، ولا تحلوا مما حرم كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغيرهما. ولما حث على تعظيم حرماته أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور بقوله {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور} لأن ذلك من أعظم الحرمات وأسبقها حظراً. و{من الأوثان} بيان للرجس لأن الرجس مبهم يتناول غير شيء كأنه قيل: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. وسمى الأوثان رجساً على طريقة التشبيه يعني أنكم كما تنفرون بطباعكم عن الرجس فعليكم أن تنفروا عنها. وجمع بين الشرك وقول الزور أي الكذب والبهتان أو شهادة الزور وهو من الزور وهو الانحراف، لأن الشرك من باب الزور إذ المشرك زاعم أن الوثن يحق له العبادة.

.تفسير الآيات (31- 34):

{حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)}
{حُنَفَاء للَّهِ} مسلمين {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} حال كحنفاء {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ} سقط {مّنَ السماء} إلى الأرض {فَتَخْطَفُهُ الطير} أي تسلبه بسرعة {فتخطّفه} أي تتخطفه مدني {أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح} أي تسقطه والهوي السقوط {فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ} بعيد. يجوز أن يكون هذا تشبيهاً مركباً، ويجوز أن يكون مفرقاً. فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق قطعاً في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة. وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي أشرك بالله بالساقط من السماء. والأهواء المردية بالطير المتخطفة والشيطان الذي هو يوقعه في الضلال بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة.
{ذلك} أي الأمر ذلك {وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله} تعظيم الشعائر وهي الهدايا لأنها من معالم الحج أن يختارها عظام الأجرام حساناً ثماناً غالية الأثمان {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات. وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى {لَكُمْ فِيهَا منافع} من الركوب عند الحاجة وشرب ألبانها عند الضرورة {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى أن تنحر {ثُمَّ مَحِلُّهَا} أي وقت وجوب نحرها منتهية {إلى البيت العتيق} والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت إذ الحرم حريم البيت ومثله في الاتساع قولك (بلغت البلد) وإنما اتصل مسيرك بحدوده. وقيل: الشعائر المناسك كلها وتعظيمها إتمامها ومحلها إلى البيت العتيق يأباه {وَلِكُلّ أُمَّةٍ} جماعة مؤمنة قبلكم {جَعَلْنَا مَنسَكًا} حيث كان بكسر السين بمعنى الموضع: علي وحمزة أي موضع قربان. وغيرهما: بالفتح على المصدر أي إراقة الدماء وذبح القرابين {لّيَذْكُرُواْ اسم الله} دون غيره {على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام} أي عند نحرها وذبحها {فإلهكم إله واحد} أي اذكروا على الذبح اسم الله وحده فإن إلهكم إله واحد، وفيه دليل على أن ذكر اسم الله شرط الذبح يعني أن الله تعالى شرع لكل أمة أن ينسكوا له أي يذبحوا له على وجه التقرب، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه تقدست أسماؤه على النسائك. وقوله {فَلَهُ أَسْلِمُواْ} أي أخلصوا له الذكر خاصة واجعلوه له سالماً أي خالصاً لا تشوبوه بإشراك {وَبَشّرِ المخبتين} المطمئنين بذكر الله أو المتواضعين الخاشعين من الخبت وهو المطمئن من الأرض. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقيل: تفسيره ما بعده أي

.تفسير الآيات (35- 36):

{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)}
{الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} خافت منه هيبة {والصابرين على مَا أَصَابَهُمْ} من المحن والمصائب {والمقيمي الصلاة} في أوقاتها {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} يتصدقون.
{والبدن} جمع بدنة سميت لعظم بدنها وفي الشريعة يتناول الإبل والبقر، وقرئ برفعها وهو كقوله {والقمر قدرناه} [يس: 39] {جعلناها لَكُمْ مّن شعائر الله} أي من أعلام الشريعة التي شرعها الله، وإضافتها إلى اسمه تعظيم لها و{من شعائر الله} ثاني مفعولي {جعلنا} {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} النفع في الدنيا والأجر في العقبى {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا} عند نحرها {صَوَافَّ} حال من الهاء أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} وجوب الجنوب وقوعها على الأرض من وجب الحائط وجبة إذا سقط أي إذا سقطت جنوبها على الأرض بعد نحرها وسكنت حركتها {فَكُلُواْ مِنْهَا} إن شئتم {وَأَطْعِمُواْ القانع} السائل من قنعت إليه إذا خضعت له وسألته قنوعاً {والمعتر} الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل. وقيل: القانع الراضي بما عنده وبما يعطي من غير سؤال من قنعت قنعاً وقناعة، والمعتر المتعرض للسؤال {كذلك سخرناها لَكُمْ} أي كما أمرناكم بنحرها سخرناها لكم، أو هو كقوله {ذلك ومن يعظم} ثم استأنف فقال: {سخرناها لكم} أي ذللناها لكم مع قوتها وعظم أجرامها لتتمكنوا من نحرها {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكي تشكروا إنعام الله عليكم.

.تفسير الآيات (37- 39):

{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)}
{لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ} أي لن يتقبل الله اللحوم والدماء ولكن يتقبل التقوى، أو لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المراقة بالنحر والمراد أصحاب اللحوم والدماء، والمعنى لن يرضى المضحون والمقربون ربهم إلا بمراعاة النية والإخلاص ورعاية شروط التقوى. وقيل: كان أهل الجاهلية إذا نحروا الإبل نضحوا الدماء حول البيت ولطخوه بالدم، فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت {كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ} أي البدن {لِتُكَبّرُواْ الله} لتسموا الله عند الذبح أو لتعظموا الله {على مَا هَدَاكُمْ} على ما أرشدكم إليه {وَبَشّرِ المحسنين} الممتثلين أوامره بالثواب {إِنَّ الله يُدَافِعُ} {يدفع} مكي وبصري وغيرهما يدافع أي يبالغ في الدفع عنهم {عَنِ الذين ءامَنُواْ} أي يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ونحوه {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ} [غافر: 51] ثم علل ذلك بقوله {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ} في أمانة الله {كَفُورٌ} لنعمة الله أي لأنه لا يحب أضدادهم وهم الخونة الكفرة الذين يخونون الله والرسول ويخونون أماناتهم ويكفرون نعم الله ويغمطونها.
{أُذِنَ} مدني وبصري وعاصم {لِلَّذِينَ يقاتلون} بفتح التاء مدني وشامي وحفص، والمعنى أذن لهم في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مشركو مكة يؤذونهم أذىً شديداً وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت هذه الآية، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ} على نصر المؤمنين {لَقَدِيرٌ} قادر وهو بشارة للمؤمنين بالنصرة وهو مثل قوله {إن الله يدافع عن الذين آمنوا}

.تفسير الآيات (40- 41):

{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}
{الذين} في محل جر بدل من {الذين} أو نصب ب (أعني) أو رفع بإضمارهم {أُخْرِجُواْ مِن ديارهم} بمكة {بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله} أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب التمكين لا موجب الإخراج ومثله {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بالله} [المائدة: 59] ومحل أن يقولوا جر بدل من {حق} والمعنى ما أخرجوا من ديارهم إلا بسبب قولهم {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله} {دفاع} مدني ويعقوب {الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ} وبالتخفيف حجازي {صوامع وَبِيَعٌ وصلوات ومساجد} أي لولا إظهاره وتسليطه المسلمين على الكافرين بالمجاهدة لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى متعبداتهم فهدموها ولم يتركوا للنصارى بيعاً ولا لرهبانهم صوامع ولا لليهود صلوات أي كنائس. وسميت الكنيسة صلاة لأنها يصلى فيها ولا للمسلمين مساجد، أو لغلب المشركون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم وهدموا متعبدات الفريقين، وقدم غير المساجد عليها لتقدمها وجوداً أو لقربها من التهديم {يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً} في المساجد أو في جميع ما تقدم {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} أي ينصر دينه وأوليائه {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ} على نصر أوليائه {عَزِيزٌ} على انتقام أعدائه.
{الذين} محله نصب بدل من {من ينصره} أو جر تابع ل {الذين أخرجوا} {إِنْ مكناهم في الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَاتَوُاْ الزكواة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر} هو إخبار من الله عما ستكون عليه سيرة المهاجرين إن مكنهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا وكيف يقومون بأمر الدين، وفيه دليل صحة أمر الخلفاء الراشدين لأن الله عز وجل أعطاهم التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة. وعن الحسن: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم {وَلِلَّهِ عاقبة الأمور} أي مرجعها إلى حكمه وتقديره، وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمته.

.تفسير الآيات (42- 45):

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}
{وَإِن يُكَذّبُوكَ} هذه تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم من تكذيب أهل مكة إياه أي لست بأوحدي في التكذيب {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} قبل قومك {قَوْمُ نُوحٍ} نوحاً {وَعَادٌ} هوداً {وَثَمُودُ} صالحاً {وَقَوْمِ إبراهيم} إبراهيم {وَقَوْمُ لُوطٍ} لوطاً {وأصحاب مَدْيَنَ} شعيباً {وَكُذّبَ موسى} كذبه فرعون والقبط ولم يقل وقوم موسى لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل وإنما كذبه غير قومه، أو كأنه قيل بعدما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم وكذب موسى أيضاً مع وضوح آياته وظهور معجزاته فما ظنك بغيره! {فَأمْلَيْتُ للكافرين} أمهلتهم وأخرت عقوبتهم {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} عاقبتهم على كفرهم {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} إنكاري وتغييري حيث أبدلتهم بالنعم نقماً وبالحياة هلاكاً وبالعمارة خراباً. {نكيري} بالياء في الوصل والوقف: يعقوب {فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أهلكناها} {أهلكتها} بصري {وَهِىَ ظالمة} حال أي وأهلها مشركون {فَهِىَ خَاوِيَةٌ} ساقطة من خوى النجم إذا سقط {على عُرُوشِهَا} يتعلق ب {خاوية} والمعنى أنها ساقطة على سقوفها أي خرت سقوفها على الأرض ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، ولا محل ل {فهي خاوية} من الإعراب لأنها معطوفة على {أهلكناها} وهذا الفعل ليس له محل، وهذا إذا جعلنا {كأين} منصوب المحل على تقدير كثيراً من القرى أهلكناها {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} أي متروكة لفقد دلوها ورشائها وفقد تفقدها، أو هي عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء إلا أنها عطلت أي تركت لا يستقي منها لهلاك أهلها {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} مجصص من الشيد الجص أو مرفوع البنيان من شاد البناء رفعه، والمعنى كم قرية أهلكناها وكم بئر عطلناها عن سقاتها وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه أي أهلكنا البادية والحاضرة جميعاً فخلت القصور عن أربابها والآبار عن واردها والأظهر أن البئر والقصر على العموم.

.تفسير الآيات (46- 48):

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)}
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض} هذا حث على السفر ليروا مصارع من أهلهم بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد ونحوه ويسمعون ما يجب سماعه من الوحي {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} الضمير في {فإنها} ضمير القصة أو ضمير مبهم يفسره {الأبصار} أي فما عميت أبصارهم عن الإبصار بل قلوبهم عن الاعتبار. ولكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه وعينان في قلبه، فإذا أبصر ما في القلب وعمي ما في الرأس لم يضره، وإن أبصر ما في الرأس وعمي ما في القلب لم ينفعه، وذكر الصدور لبيان أن محل العلم القلب ولئلا يقال: إن القلب يعني به غير هذا العضو كما يقال (القلب لب كل شيء).
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} الآجل استهزاء {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} كأنه قال: ولم يستعجلونك به كأنهم يجوزون الفوت وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف ولن يخلف الله وعده وما وعده ليصيبنهم ولو بعد حين {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ} {يعدون} مكي وكوفي غير عاصم أي كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم لأن أيام الشدائد طوال.
{وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظالمة} أي وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حيناً {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} بالعذاب {وَإِلَيَّ المصير} أي المرجع إلي فلا يفوتني شيء. وإنما كانت الأولى أي {فكأين} معطوفة بالفاء وهذه أي {وكأين} بالواو لأن الأولى وقعت بدلاً عن {فكيف كان نكير} وأما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو وهما {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ}.